فصل: الأسرة في القرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.الأسرة في القرآن:

189 - قبل أن نتلو الآيات الكريمة التي تصدَّت لأحكام الأسرة وتنظيم العلاقات بين آحادها، أو نشير إلى بعض تلك الآيات الكريمة، لا بُدَّ أن ننبه إلى أمرين:
أولهما: ما ذكرناه آنفًا من أنَّ العبادات قد ذكرت في القرآن إجمالًا، وترك أمر بيانها للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأشرنا إلى ما أدركنا حكمته لعلم الله تعالى في شرعه وبيان أحكامه.
الأمر الثاني: أن الأسرة ذكرت أحكامها تفصيلًا من وقت تكوينها بعقد الزواج، إلى أن يقرر الله تعالى التفريق بالموت أو الطلاق، وذكر أحكام الأسرة الممتدة غير المقصوة على الزوجين، وما بينته السنة لا يعد كثيرًا بالنسبة لما بينه القرآن الكريم.
ثم ذكر القرآن الكريم توزيع المال في آحاد الأسرة، وفي الميراث، ويكاد القرآن الكريم يستغرق كل أحكامه في تفصيل لا إجمال فيه.
وهنا يسأل السائل، لماذا كان التفصيل في أحكام الأسرة، ولم يترك أمرها لبيان النبي عليه الصلاة والسلام فقط، ونقول في الجواب عن ذلك: إنَّ هذه حكمة علَّام الغيوب، وإننا نلتمس معرفة بعض هذه الحكمة، راجين ألَّا نكون داخلين في النهي في قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36].
وإن هذا بلا ريب من عناية القرآن الكريم بالأسرة؛ إذ جاء النص على أحكامها بآيات محكمة، وإذا كانت عناية الإسلام بالعبادات جعلت أحكامها عملية يتولَّاها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؛ لتربي النفوس عليها بالدرية والتهذيب لا بمجرد التلقين، فعناية الإسلام بالأسرة كانت بالنصِّ الكامل على نظامها، لكيلا ينحرف الناس بأهوائهم عنها، وليكلا ينكروا تطبيقها، ويجعلوا لعقولهم سبيلًا للتحكم في أموالها، ونظامها، ولأنَّها متصلة بالرضا والغضب بين الزوجين والأقارب، فكان لا بُدَّ من ميزان مقرر ثابت بحكم الأهواء، ويضع الأمور في مواضعها.
وإن أحكام الأسرة مؤثرة في المجتمع وموجهة له؛ لأن الأسرة هي دعامة البناء الاجتماعي يضطرب باضطرابها، ويقوى بقوتها، ولأنَّ الإسلام جاء لإقامة مجتمع فاضل تربطه المحبة، وتوثق روابطه المودة، كانت عنايته بأحكام الأسرة، وأن تكون مستقرة يتصل فيها ماضي الأمة بحاضرها.
ومن الناس من ظنوا أنهم يستطيعون إقامة بناء صالح للأسرة من غير أن يتقيدوا بألأحكام القرآن الكريم باسم ما يسمونه (تطور الزمان) يقلبون فيه الأوضاع، فتضطرب الموازين، ومن الناس من يبالغون في إعطاء المرأة حقوقًا لا تقتضيها فطرتها، ولا النظام الاجتماعي، ويحسبون أنهم يسيرون بالجماعة إلى الإمام، وهم يرجعون بها إلى الوراء، حيث تفسد الطبائع وتخالف الفطرة.
ولقد يقول بعض علماء الاجتماع: إنَّ النشأة الأولى في جاهلية الإنسان كان فيها السلطان على الأولاد للمرأة كأنثى الحيوان، أو أكثره، حتى إذا عرف البيت، وانتظمت العلاقة بين الرجل والمرأة، وكان لكل واحد منهما ما هيأته الفطرة له، فالمرأة ترأم الأولاد، وتقوم على رعايتهم، والأب يكدح ويعمل ليوفر لهم الرزق.
والآن يحاولون أن يقلبوا الأمور، ويضعوها في غير مواضعها، حتى لقد قال بعض المفكرين: إننا لو سرنا خطوات بعد ما ابتدأنا السير فيه وأوغلنا، فستعود الأمور إلى سيطرة المرأة على البيت، ويكون الرجل غير مستقر في بيت، ويكون نظام المسافدة.
من أجل هذا فيما ندرك وعلى قدر إدراكنا نص الكريم على أحكام الأسرة بالتفصيل، حتى لا يتهجّم المنحرفون ليشرِّعوا لأنفسهم ما لم يشرِّع الله ويفسدوا الفطرة.
ولقد كان سبحانه وتعالى - بعد ذكر بعض أحكامها يقول - جل شأنه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء: 13]، ومن ذلك قوله تعالى بعد بيان المواريث: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176].
190 - وأحكام الأسرة التي تعرض لها القرآن تبتدئ من وقت إنشاء الزواج أو التفكير فيه، فأوجب الإعلان في الزواج، فقال تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235].
وبيِّنَ سبحانه وتعالى - في كتابه أنَّ المهر واجب على الرجل؛ لأنَّ كل الواجبات المالية على الرجل، حتى لا تبتذل المرأة في كسب المال فتتدلى إلى الهاوية. وقد قال تعالى في ذلك: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]، وقرَّر أن المرأة مستحقة للمهر كاملًا بالدخول بها. وقد قال تعالى في ذلك: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا، وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 20، 21].
وإذا لم تتمّ بينهما عشرة زوجية، وكان تفرّق قبل الدخول، فإن المرأة لا تحرم من المهر حرمانًا كاملًا، بل يبقى لها نصفه، ولأنَّ الرجل لم تقم بينهما حياة زوجية يشتاران عسلها، فإنه يسقط عنه النصف، وذلك ما قاله سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم؛ إذ يقول - جلَّ من قائل: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ، وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 236، 237].
والقرآن الكريم بيِّنَ من يحل الزواج منهن، ومن لا يحل بالنص، وبعض البيان كان مستغلقًا على بعض الأفهام، فبينه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، اقرأ قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا، حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 22 - 26].
ولأن الإسلام يريد مجتمعًا فاضلًا طاهرًا، لا تشيع فيه الفاحشة، أباح تعدد الزوجات إلى أربع فقط، وقد كان من قبله إلى غير عدد محدود، كما ذكرت التوراة، فقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3].
وشرط إباحة الزواج في الأحوال كلها العدالة، سواء أكان الزواج الأول أم الزواج الثاني، ولقد أجمع الفقهاء على أنَّ من تأكَّد أنه سيظلم امرأته إن تزوج يكون آثمًا؛ لأن الزواج حينئذ يكون موصولًا للظلم فيأخذ حكمه، ولكنّ الزواج لا يبطل، وليس للحاكم أن يقرِّر بطلانه، أو يمنعه، لكن إذا وقع الظلم بالفعل كان للقاضي أن يفرق بينهما إن طلبت الزوجة ذلك، وذلك لمقام النهي في قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [النساء: 19].
191 - والإسلام إذ جعل دعامة العلاقات الاجتماعية الأسرة فقد دعمها القرآن بوصاياه الحكيمة التي يأثم كل الإثم من خالفها، وتجانف لإثم في العلاقة الزوجية:
أولًا: أمر الأزواج بالعدل وحسن المودة، والعشرة الطيبة التي تقرب القلوب وتدنيها، ولا تنفرها وتجنبها، فقال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].
وقال تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] وقد تلونا ذلك آنفًا.
وأمر سبحانه وتعالى - ثانيًا كلا الزوجين أن يعمل على إصلاح الآخر، إن بدا منه اعوجاج، فيقول سبحانه في القرآن العظيم: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا، وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا، وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا، وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 127 - 130].
وأمر ثالثًا: بعلاج نشوز الزوجة، وعلاج نشوزها إن لم يتمكنا من الإصلاح بينهما من غير اطِّلاع غيرهما عليهما إلَّا أن يكون من أهل الخير أو الجيران الصالحين، فقال تعالى:
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} [النساء: 34].
وأمر سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم رابعًا: بإرسال حكمين إن كان الشقاق متوقعًا، ويخشى استمراره، فقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [النساء: 35].
والإسلام وزَّع واجبات الحياة الزوجية بين الزوج والزوجة توزيعًا عادلًا يتفق مع الفطرة من غير ظلم للمرأة، ولا إرهاق ولا إذلال لها، فجعلها قوامة على البيت تديره وتدبره، وتربي ثمرة الزواج، وعلى الرجل الإنفاق، ولقد قال تعالى في ذلك {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى، لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 6، 7].
192 - ولقد تعرَّض القرآن الكريم لثمرات الزوجية وهي الأولاد، وقد تعرَّض لبيان حالها ومدة الحمل والرضاع، وحال الأم في حال الحمل، فقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15]، وإن القرآن الكريم بَيِّنَ وقت الرضاعة وعلى من تجب وبيِّنَ نفقة الولد، وعلى من تجب، فيقول سبحانه وتعالى:
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233].
ولقد عني الإسلام بالمحافظة على الأولاد إذا فقدوا آباءهم، وهم اليتامى، وعني منهم بأمرين:
أولهما: المحافظة على أموالهم، فيقول سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2]، ولحرض الإسلام على أموالهم من أن تتبعثر أو تذهب، نهى الأوصياء عن أن يعطوهم أموالهم قبل أن يدربوهم على إدارة أموالهم، فقال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا، وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا، لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا، وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا، وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 5 - 10].
هكذا نجد القرآن الكريم حثَّ على المحافظة على أموال اليتامى، ونظم طريق المحافظة عليها، بعد أن تسلم إليهم.
الأمر الثاني: الذي حث عليه القرآن الكريم بالنسبة لليتامى أنَّه منع قهرهم، وإذلال نفوسهم، لكيلَا تكون لهم عقد نفسية تحول بينهم وبين الاندماج في الأمة، ولذلك أمر الله نبيه بألَّا يقهر يتيمًا، فقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى: 9].
وقد أمر المؤمنين الصادقين أن يضمّوا اليتامى إلى أسرهم، ويكونوا كأولادهم، حتى لا يشعروا بذل اليتيم، فقد قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220].
وعني الإسلام باليتامى لكيْلَا ينشئوا نافرين من الجماعة، فيكون منهم المشرَّدون، وقطَّاع الطرق، ويكونون حربًا على أمنها، فيكونون ذئاب الجماعة، وهم إن أحسنت تنشئتهم يكونون قوة عاملة نافعة.
وكذلك الأمر في كل مسكين أذلَّته الحاجة وقهره الفقر، فإنه يكون قوة إن أكرم، وعاملًا هدَّامًا إن قهر ومنع، وهؤلاء هم العقبة إن لم يكرموا، ولذلك قال الله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 11 - 17].
وكما أوجب الإسلام رعاية اليتامى، والقيام على شئون الأولاد وتربيتهم على المودة والرحمة والنزوع الاجتماعي، أمر الأولاد بإكرام الوالدين، والإحسان يقترن بالأمر بعبادة الله وحده، ومن ذلك قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].
ويذكر الله تعالى وصايا لقمان لابنه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 13 - 15].
ولقد حرص القرآن على الوصية بالوالدين عندما يصيبهما الضعف، ويكونان في حاجة إلى النظرة الرفيقة الطيبة، فيقول سبحانه وتعالى - في كتابه الكريم: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23].
وهكذا يربي القرآن الكريم الأسرة ويقيمها على دعائم من المودة والرحمة ورعاية القوي للضعيف ورحمة الكبير بالصغير، وإكرام الصغير للكبير.